كتب محمد عبد المنعم زهران
لأنه كان لابد أن يشعر بالاضطراب ، فقد شعر بالاضطراب … وعندما ناول كيس الفاكهة للمشترى ، لم يتناوله ، ونظر إلى الفاكهة فى دهشة . ظل بائع الفاكهة باسطاً يديه بكيس الفاكهة ، فتضاعفت الدهشة على وجه المشترى ، حين نظر إليه وقال فى أدب بالغ إنه لا يريد خوخاً وإنما يريد موزاً .
ارتعشت عينا بائع الفاكهة وزاد اضطرابه …
– آسف . دقيقة … دقيقة !
ولكن المشترى رآه يملأ الكيس خوخاً وموزاً معاً فانصرف . التفت بائع الفاكهة فلم يره ولبث واقفاً قليلاً يرتعش بعينين نصف مغلقتين ، ثم ألقى الكيس على عربة الفاكهة ، أمسك رأسه .. وحرك شفتيه … ” … صداع … ” .
وكان مستلقياً على كرسى كمومياء خاوية العين ، عندما جاء زبون آخر ، وفشل فى أن يبيع له أى شئ . ثم بدأ – فى استسلام – يتأمل الفاكهة فى أقفاصها ، والمارة فى الشارع المزدحم فاشتدت وطأة الصداع ، وشعر فى نهاية الأمر برأسه يفرغ ، وكأن خيطاً من تريكو ينسحب من ثوب مطرز . ينسحب ببطء وألم .. حتى تفككت كل الأشياء وتشابكت . كان يمسك رأسه بكلتى يديه حين نهض فجأة ونزع أوراق التسعيرة المثبتة على كل قفص ، ثم فرد الغطاء القماشى على العربة ، ولفها بالحبال ومضى .
مشى فى سرعة ، ودخل حارته المظلمة لأن التيار الكهربائى انقطع منذ قليل ، فاصطدم بولد صغير ، ثم اصطدم بدراجة ، وعندما وصل إلى البيت ، رأى زوجته جالسة بجوار الباب وأمامها طبق البرتقال ، دخل فى غرفة وأغلق الباب ، فعادت الكهرباء . تنفس بارتياح وتناول حبات من الأسبرين ، شعر بهدوء نسبى ، فنظر إلى وجهه ، ووضع يديه على جبهته …
” … آآآه ه ه … ه ه … ” .
كان يشعر بالألم ولكنه تأمل نفسه مرة أخرى ، نزع الطاقية من على رأسه ، ومسح بيده الأخرى على شعره ، رأى الأثر الذى يحدثه لبس الطاقية لمدة طويلة … فأعاد تسويته . حدق فى وجهه طويلاً ، ثم تحسس أنفه … ضغط عليها وراقب استجابتها ، عندما تسللت أنامله إلى عينيه ارتبكت الرؤيا لأن أصابعه كانت تبدو ضخمة فى عينيه فأبعدها .. هبطت أصابعه إلى حيث شفتيه وشدهما فتحركت شفتاه كقطعتى مطاط ، تحسس شعيرات ذقنه البارزة وابتسم .
هكذا انتهى من معاينة وجهه فى المرآة ، أو هكذا تصور بائع الفاكهة لأنه لم تكن هناك أية مرآة على الإطلاق ، فقط حائط من طوب بارز ، عندها التفت بصورة خاطفة ، ورفع رأسه إليك أنت أيها القارئ بينما تقرأ ، مشى باتجاهك واقترب بوجهه كمن يقترب من عدسة سينمائية فيملأ وجهه كل الكادر ، فتح فمه …
– لماذا تنظر إلى هكذا !
عندما تكلم وهو ينظر فى عينك مباشرة ، كان بإمكانك رؤية أسنانه ولسانه وحنجرته ، استمر ينظر إليك وإذا بك تفاجأ بإبهامه يصعد فجأة أمام وجهه ، يوجهه إلى عينيك …
– مَن هناك ؟! لا أحد هنا .. هه ..
ظل بائع الفاكهة واقفاً يحدق كتمثال ، ولكنك ربما لا تعرف أنه فى هذه اللحظة أحس بالصداع يشطر دماغه :
أنت مصاب بصداع فظيع أيها البائع أليس كذلك – نظر بائع الفاكهة حوله وفوقه ليرى من أين يأتى صوتى !!
يمكننى أن أبدأ بالاعتذار ، إذن سأعتذر عن هذا الاضطراب الذى أصابك ، إن كل ما كنت أريده هو أن تعود مبكراً فقط ، ليتسع لنا الوقت للتفكير .
ولكن بائع الفاكهة نظر إليك أيها القارئ مرة أخرى ، وحيث أنه لم يكن متأكداً من وجودك أصلاً ، فقد اخذ يدور حول نفسه موشكاً على الجنون ، لذلك كان ينبغى علىًّ التدخل :
أنت الآن يا عزيزى البائع معى فاطمئن ، علينا أولاً أن نتجاوز كل هذا الوقت من الدهشة، الدهشة العادية ، ولنباشر عملنا …
وضع بائع الفاكهة يديه على خديه وتمتم بصوت مخنوق ..
– ماذا يحدث لى … !!!
لا تبك من فضلك ، هذا هو السؤال الذى أردتك أن تسأله ، أنا أتحدث إليك لأجعلك تفكر … لنفكر سوياً معاً …
– أفكر ! .. فى أى شئ !!
ها أنت قد بدأت تستجيب دائما يبدأ كل شئ عندما نتساءل فيم نفكر .. ولكن لا ترتعش … لا ترتعش هكذا …
– أنا أرتعش ! … آه … أرتعش … ولا أفهم أى شئ … صداع … !!
سأفسر لك حالاً ، سأفسر لك أنا ..
أنت كنت تقف أمام عربتك وتبيع فاكهتك …
– نعم …
لا … تقاطعنى من فضلك ، ثم جاء إليك زبون وقال لك أريد موزاً ، ولكن فى ذات اللحظة، كانت عيناك على أول الشارع ، كنت تتوجس من ظهور عربة البلدية ، التى – ودائماً – ما إن ترها قادمة من الشارع وفى داخلها ضابط ينظر إليك مباشرة حتى ترتجف وتحمل أشياءك على العربة بسرعة خاطفة ، ثم وبكل قوة تدفع العربة أمامك وتجرى بأقصى ما تستطيع لتخفيها فى الشارع الجانبى .
ثم – انتظر قليلاً – هذا إذا كنت بالفعل استطعت أن تحمل أشياءك داخل العربة وتفر بها ، إذ كنت تفكر فى أنه ربما وأنت تزن للزبون الموز ، ستجىء عربة البلدية من خلفك تماماً ، ومن حيث لا تدرى ستجد العساكر منتشرين حولك والضابط يتقدم إليك مباشرة وفى عينيه شر . هذا الشر ستحسه تماماً عندما يدفعونك لركوب عربة البلدية بمصاحبة عربتك وأقفاص فاكهتك ، ستشعر ساعتها بإحساس فأر داخل مصيدة ، وستنظر إلى مكانك الخالى وتبتئس . كنت تفكر فى كل ذلك ، وعندما امتدت يدك إلى الموز – كما كنت تريد – لتزن للزبون ما طلبه فالواقع أن يدك لم تقترب من قفص الموز وإنما بدأت تلتقط حبات من قفص الخوخ ، والسبب فى ذلك زوجتك …
زوجتى …
نعم زوجتك …
آآه … الصداع لا يرحمنى ….
جلس بائع الفاكهة الآن على الأرض ، أو بصورة أوقع ، ترك نفسه ليسقط على الأرض وأمسك رأسه بكلتا يديه وهو يئن …
آآه … الصداع لا يرحمنى ….
نعم زوجتك …
… زوجتى …….. !
السبب الذى جعلك تنظر إلى الموز ، كنت تنظر إليه بكلتا عينيك ومع ذلك فإن يديك كانتا تلتقطان خوخاً وتضعه فى الكيس ، لماذا لا تعترف بأنك فكرت فى أن ذلك الشاب ربما سينادى عليها من نافذته وينظر إليها بعينيه وهى جالسة أمام البيت ، ولأنها تريد أن تبيع ، فستحمل البرتقال إليه ، ولكن ربما كان عليها أن تتذكر أنك حذرتها وضربتها حتى لا تحمل البرتقال إليه فوق ، وأن عليه أن ينزل إذا كان يريد برتقالاً وحين فكرت فى أنها ربما تصعد الآن حاملة إليه البرتقال فى كيس ورقى تضمه إلى صدرها حتى لا ينفلت منها وإذا كانت الكهرباء قد انقطعت فى الحارة ، أنت رأيتها بعينيك مطفأة منذ قليل لأنها ليست بعيدة ، فى هذا الوقت بالتحديد بدأت تعبئ الكيس للزبون مرة أخرى موزاً وخوخاً معاً ، لأنه قال لك إنه لا يريد خوخاً وإنما يريد موزاً . وعندما التفتّ إليه لم تره لأنه ربما اعتقد إنك مجنون .
لذلك لم يكن غريباً أن تمسك رأسك قائلاً ” .. صداع … صداع .. ” وأنت تنظر إلى السيدة التى وقفت توا فى البلكونة المقابلة لك . أمسكت رأسك ونظرت إليها وتذكرت حين صعدت إليها حاملاً كيس الفاكهة نظيفاً وملوناً ، وطرقت الباب ، وسمعت خطواتها تقترب ، فارتبكت ، وحين فتحت الباب وابتسمت أصابتك قشعريرة ، وحين تناولت منك الكيس حملته إلى الداخل ، وأنت فكرت أن تدخل ، وفكرت فى كل شئ فكرت وتوتر جسدك ، ولكن فى النهاية لم تفعل أى شئ ، أخذت النقود من يدها ورفعت يدك بالتحية وهبطت .
استلقى بائع الفاكهة على الأرض تماماً الآن ، وضع ذراعه أسفل رأسه وأراح جسده محدقاً فى لا شئ ، لأنه كان يعتقد أنه مصاب بصداع .
– ماذا تريد منى الآن … !
أنا لا أريد شيئاً ، نحن نفكر معاً ، وإذا كنت قد جعلتك تصاب باضطراب فهذا لكى أجعلك تفكر .. فكّر .. عندما جاءك زبون آخر وأنت جالس على كرسى أمام عربتك ولم تستطع أن تبيع له أى شئ ، هذا لأنك لم تكن قادراً على سماعه ، ولأنك أيضاً ظللت – فى نفس الوقت – تراقب أول الشارع لتلاحظ أول ظهور لعربة البلدية ، كنت تعرف أن أصحاب دكاكين الفاكهة الكبيرة فى الشارع ينظرون إليك بكراهية ، ولأنهم كانوا جالسين على كراسيهم أمام دكاكينهم ، فقد سحبت كرسياً وجلست الآن عليه ، ناظراً إليهم فى تحد ، ولكن ما لم تعمل حسابه أن يرفع أحدهم سماعة التليفون ويتحدث مشيراً إليك وإلى الشارع ، محركاً يديه دلالة أن الشارع يضيق وأن السيارات لا تستطيع السير ، أنت تدرك هذه الإشارات لأنهم كثيراً ما فعلوها معك فى أوقات الذروة حيث يكثر الزبائن ، وحيث أنك تبيع أرخص منهم قليلاً ، لذا فقد تأكدت أن الطرف الأخر على التليفون لابد أن يكون قسم الشرطة ، لذلك فقد دخنت سيجارة وأخرى ..
ولكن الصداع بدأ يحطم رأسك – كما تصورت – فنهضت ونزعت أوراق التسعيرة المثبتة على الأقفاص ثم فردت الغطاء القماشى على العربة وربطها بالحبال ودفعتها فى الشارع الجانبى ومضيت ، لتأتى البلدية ولا تجدك .
ثم تسارعت خطواتك بينما تدخل الحارة ، وحيث أن الكهرباء كانت مقطوعة فقد انتابتك الهواجس مرة أخرى وبدأت تجرى مصطدما بولد صغير ، ثم بدراجة يقودها عجوز ، تفادى السقوط بأن أسند قدميه على الأرض ناظراً إليك فى غضب ، ولكنك حين اقتربت من البيت ، كانت المرأة جالسة أمام الباب ، جالسة فى هدوء وطمأنينة فأصابك هدوء وطمأنينة ، دخلت إلى الغرفة وأغلقتها فعادت الكهرباء , وانتابك شعور بأمان حقيقى لأنك فى البيت ولأن كل شئ على ما يرام .
ورغم ذلك فقد تناولت ثلاث حبات من الأسبرين ووضعت يدك على جبهتك وقلت ” آآآ ه ه” لأن الصداع قد بدأ ينسحب بالفعل ، هذا لأنك كنت ما تزال مصراً على أنه صداع . ثم بدأت بعد ذلك تتحسس وجهك كمن ينظر إلى مرآة ، فشعرت بالحيوية والانبساط ، وحين شعرت براحة كاملة ، ابتسمت . ولكنك فى لحظة تخيلت أن شخصاً ما ينظر إليك فى هذا الحال ، تخيلت أن شخصاً عرف كل ما دار فى ذهنك ، وها هو ينظر إليك فشعرت بالخجل واقتربت وأنت تقول لوجه وهمى يراقبك ” لا أحد هنا … هه … ” .
ثم بعد ذلك تمددت على الأرض وغلبك الإجهاد فتركت جسدك يرتاح .
ولأنه لم يكن هناك أى شئ وهمى وأنك أنت هنا أيها القارئ ، موجود وبصورة حقيقية فانظر إليه وراقبه جيداً ، وهو ينهض ويخرج مرة أخرى من البيت تاركاً امرأته جالسة أمام الباب تبيع البرتقال ، ثم يتحرك تجاه الشارع المزدحم بدكاكين الفاكهة الكبيرة ، يدخل إلى الشارع الجانبى ويدفع العربة إلى مكانها وينزع الغطاء القماشى ويضع أوراق التسعيرة فى أماكنها ، يأخذ كرسياً ويجلس متأملاً البلكونة المقابلة وناظراً إلى التجار الكبار أمام دكاكينهم وقد أصابتهم خيبة لأن عربة البلدية جاءت ولم تجدك .
عندها اقترب أنا وأراه هادئ البال ، أطلب موزاً فتجد يد البائع طريقها إلى قفص الموز بسهولة ، يزن لى الموز ويضعه فى كيس نظيف ويقدمه لى بابتسامة . بعد ذلك بقليل جاء زبون آخر وطلب خوخاً فتحرك بائع الفاكهة فى مرح وبدأ يعبئ الكيس خوخاً لكنه وبينما يعبئ الكيس للزبون توقف قليلاً ، ثم وفجأة رفع رأسه والتفت إليك أنت أيها القارئ … وابتسم .
* * * * *
كل شئ هادئ الآن .
لأن بائع الفاكهة شعر براحة كاملة ، فعاد يجلس على كرسيه فى طمأنينة ، حيث لا اضطراب ولا صداع . وحين خرجت السيدة إلى البلكونة مرة أخرى ، هب واقفاً وأخذ ينظر إليها، ورغم أن السيدة قد دخلت فقد استمر ينظر إلى البلكونة وهو يشعر بطعم الفراولة فى لعابه ، ثم إذا به يحول وجهه إليك أيها القارئ ويبتسم مرة أخرى ، هكذا ينظر للبلكونة ثم إليك ويبتسم ، ابتسامة سخيفة وغبية ، وعلى أثر ذلك التقط من القفص تفاحاً أحمر وملأ به كيساً كبيراً وطرق على الباب وعندما فتحت له ، رأت يده ممدودة ليصافحها فصافحته مندهشة ، زادت دهشتها لأنها لم تطلب منه شيئاً ولكن بائع الفاكهة فى هذه اللحظة صمت وسبّل عينيه بطريقة فجة وغبية .
الآن يمكننا رؤية هذا المشهد من داخل شقة السيدة ومن خلفها … هكذا : الباب مفتوح والسيدة تعطينا ظهرها بثوبها الخفيف وشعرها البنى مسندل على كتفيها ، تمسك بيدها البيضاء حافة الباب ، وبائع الفاكهة الذى يظهر من جنب كتفها واقف بجلبابه ، ماداً يديه بكيس التفاح الأحمر ، كمن يقدم قرباناً ، حاجباه مرفوعان قليلاً ، فاغر الفم . فى هذه الوضعية تماماً والتى يمكننا تأملها من كافة الزوايا أغلقت السيدة الباب فى وجهه بعنف فتطاير التفاح من يديه وأخذ يتقافز على السلم ككرات ، نظر بائع الفاكهة إلى التفاح وجمعه … ثم رصه فى القفص ورأى البلكونة تنغلق .
وفى هذه اللحظة جاءه زبون وطلب برتقالاً ، فمد يده إلى قفص البرتقال ، ولأن نافذة الشاب قد انفتحت فى الحارة ، فقد حملت إليه الزوجة برتقالاً ، لأنه كان يريد برتقالاً ، وضعته فى كيس وضمته إلى صدرها حتى لا ينفلت وطرقت على الباب فانقطعت الكهرباء فى الحارة . ولأن بائع الفاكهة لم يكن مضطرباً كما كان من قبل فقد بدأ يضع البرتقال للزبون فى كيس وهو يفكر فى تجربته الفاشلة وإمكانية تكرارها بنجاح .
ولأنه فى هذه الوضعية لم يكن باستطاعته ملاحظة أول الشارع فقد وجد عربة البلدية أمامه ، وجدها فجأة أمامه فشعر وكأن السماء تمطر برتقالاً صلباً وقاسياً ، نظر إلى الضابط صامتاً وجلس فى العربة المكشوفة بجوار عربته التى حملها العساكر والقوها بكل تفاحها وعنبها وخوخها وموزها ، فشعر بإحساس فأر داخل مصيدة ، وعندما تحركت العربة بدأ السرير يهتز فى حجرة الشاب ، لأن الشارع ملئ بالمطبات . وضع بائع الفاكهة يده على خده ، رأى مكانه خالياً ورأى تجار الفاكهة أمام محلاتهم الكبيرة ينظرون إليه ضاحكين ، ساعتها … رفع عينيه إليك أيها القارئ .. عينين بائستين لا أكثر .