صاحبة وجه ملائكي، صنعها الخالق من طينة الجمال، ونفخ فيها من روحه، وأسكنَ الرضى في قلبها، والبسمة في محيّاها، وطبَع بالطيبة والدّماثة أخلاقها، فجاءت متكاملة …كان اسمها بسمة.
الطيبون للطيبات، ولأنّها من هؤلاء الطيبات كان نصيبها طيبًا، وكانت الذرية منهما على مستوى رفيع من الأدب والأخلاق والطيبة …
مرّت الأيام عليها مرورها على كلّ البشر، كبر أولادها، فرحت بزواج كلّ واحد منهم، البنات, منهنّ من استقرت في نفس البلدة, ومنهنّ من كان نصيبها الاستقرار في بلدات قريبة مجاورة، أمّا الشباب فجميعهم بقَوا بنفس البلدة … هذه البلدة التي كان لها مع الموت لقاء غريب !عندما بدأت بذور الصراع في بلدنا مطالِبةً بالإصلاح أولًا، وبالحريّة لاحقًا، ثم خرجت المطالِب إلى نطاقات أخرى، من شعب ظنّ خطأً أَنَّهُ والسلطة مُؤهلون لتجربة الديمقراطية، ومع إهراق أوَّل قطرة دم على أرض الوطن، تحوّلت الأوضاع وانقسم الشعب إلى موالين للنظام، ومعارضين له، طبعًا لم يخلُ الأمر من وجود فئة رمادية بين هذين القسمين، لا مع ولا ضد، هذه الفئة كانت تلتزم الصمت، حيال كلّ ما يجري، طالما أن المعارك بعيدة عنها، الفئة الرابعة التي طفت أيضًا على سطح المجتمع في ظلّ تلك الظروف هي فئة المذبذبين، الذين يميلون إلى هؤلاء حينًا، وإلى أولئك حينًا آخر تبعًا لمصالحهم الشخصية، وكانت تلك الفئة الأكثر خطرًا، والتي اعتمد عليها كلا الطرفين في التجسس على الآخر، فكانت الخيانات من نصيب كلا الطرفين.
كحال معظم الأمهات المسالمات، خافت على أبنائها، ودعتهم إلى التزام الصمت، وعدم الانحياز إلى أي من الطرفين، بالمختصر طلبت منهم أن يكونوا رماديين ! مستحضرةً حديث الرسول الكريم في زمن الفتنة، بضرورة أن يلتزم المؤمن بيته والصمت…
في مدينة كبيرة تُعدّ العاصمة التجارية، طفلةٌ جميلة جاءت إلى الحياة كأنها تتلصلص، مغمّضةً عين وفاتحة الأخرى، كلّ من رآها قرأ على جبينها( مشاكسة)، عندما يولد الأطفال يستقبلون الحياة بصرخة باكية، أمّا هي فاستقبلتها بنظرة حذرة حملت كلّ معاني الترقّب والتحفّز، وكأنها تتحدّى الجميع وتتوعّدهم بالكثير …
وكان … كانت منبع المقالب المرحة والمؤذية بلا منازع، التعيس من ابتلع أحد مقالبها دون أن يدرك أن البراءة الساكنة في قسمات وجهها تخفي وراءها الكثير من فنون السخرية, ينتهي المقلب عندها بضحكة طويلة وأمها تجرّها معتذرةً ممن بلع الطّعم وكان صيدها, لم ينفع معها أي أسلوب من أساليب العقاب، فذلك طبع وُلِد معها، فكان ظلّها، ولا يمكن معاقبة الظّل ..الكلّ كان يضع أمله بالأيام, عساها تخفّف من شقاوتها.. كان اسمها هادية !!! لكن لقبها (عاصفة)!!.
كبرت عاصفة بكلّ حريّة، أحبّها كلّ من عرفها، ولعلّ الكثيرون تمنّوا أن يكونوا مثلها في باطن أمنياتهم، تقول ما تريد وتفعل ما تشاء، وكان الزّواج العصا التي تولَّت تأديبها والحدّ من شقاوتها، غارت الضحكة التي كانت تزيّن وجهها, ولم تعد تظهر إلّا في لحظات تسرقها بعيدة عن العصا، أهلها الذين كانوا يتبرّمون من شقاوتها، صاروا يستفزّونها لتعاود مقالبها، اشتاقوا إلى رنّة ضحكاتها، رزقها الله الأولاد فقامت بواجب الأمومة كما ينبغي، مخيّبةً نظرةَ من راهنوا على فشلها .
يوم هاج البلد وقامت القائمة في مدينتها، حملها الخوف على أبنائها على المغادرة إلى مدينة آمنة، كانت من الذين نشدوا الحريّة، لكنّ خوفها على أبنائها جعلها تلجم هذا الأمل في قاعها، وتغلق عليه الأصفاد ..ثم شدّها الحنين إلى بيتها، أمّنت على أولادها الشّباب أنّهم غادروا إلى الخارج، ومتى كان الخارج أمنًا إلّا في هذه الأيام النّحسات؟ وعادت مع ابنتها الوحيدة, قضاء الله في بيتها أعزّ من قضائه في الغربة، لكنها لم تجد بيتها! كان خرابًا مرّت عليه صواعقَ دكّت أصلابه وسوّتها بالأرض, بل وأوغر …
الموتُ الذي توعّد بلدة بسمة كان من كِلا الطرفين، المدهش أنّ هناك وجوهٌ غريبة باتت تُشاهَد في البلدة، تحملُ سحناتٍ مختلفة، قطعًا ليسوا من أهل البلاد، وافدون من أماكن مختلفة من بقاع الأرض يحملون رايات غريبة، سوداء وصفراء وخضراء، عليها أسماءٌ لفصائل مختلفة من أين جاؤوا ؟ ولماذا؟ كان يكفينا رايتين ينضوي تحتهما أبناء الأسرة الواحدة، يتقاتلون حينًا وبعدها يتصالحون، لكن أن نُحتَلّ من قِبَل يأجوج ومأجوج فهذا هو الجنون والغباء بعينه .
السلاح الذي ظهر في بلدة بسمة كان من كلّ الأنواع، وبطرازٍ تدرّج من السلاح الأبيض الذي ساد عبر العصور المنقرضة, وحتى الطيران الحديث، مرورًا بالبنادق والمدافع والقذائف والصواريخ والبراميل البراميل المتفجرة كانت وحدها حكاية ….أحدُ هذه البراميل سقط على بيت مجاور لبيت بسمة، مات كلّ من فيه، وكان البقاء في المكان طبعًا ضربًا من ضروب الانتحار!.
غادرت مع زوجها إلى قرية ظنّوها آمنة، كان فيها كلّ شيء ما عدا مقوِّمات الحياة، المتوفّر منها فقط هواء، وحتى هذا كان مُلوّثَا, عندما استنشقته بسمة مُجبرة، استقرّت إحدى الملوثات الغريبة، واستوطنت في رئتيها، مسببة لها حرارة عالية لو تدفّأ عليها أهل المخيمات لأدفأتهم جميعًا .
نقلها زوجها إلى ما يسمونه مستشفى، خاليًا من كلّ الكوادر الطبية، يقوم عليه بضع أفراد تلقَّوا دورات بالإسعافات الأولية، مهاجمةُ الجرثومة التي استقرت في رئتي بسمة والقضاء عليها لم يكن ضمن برنامج التدريب …
أنهت بسمة صلتها بالحياة بآهة ألم وحرقة، وهي تدعو لأبنائها الذين لم يستطيعوا أن يصلوا إليها رغم أن المسافة التي تفصلهم عنها لا تتجاوز الخمسين كيلومتر ! فالطريق مقطوع من قِبَل كل الفصائل الصديقة ! وأين يذهب الفقير فارًّا من الموت إلّا إلى ملجأ قريبٍ يظنّه أكثرَ أمنًا ؟
هذا المكان كان قريةً صغيرة، غادرها الرجال خوفًا من الاعتقالات والخطف من قِبَل كلّ الأطراف، قامت نساؤهم ببيع كلّ شيء لتأمين خروجهم، وبقيت القرية بقوامة النساء والأطفال وبعض الشيوخ، ينتظرون فرجًا قد يأتي .
حلّت ( عاصفة) وابنتها ضيفة على إحدى هذه العوائل، يتقاسمون جميعًا ما تجود به الأرض من حشائش، وما يغنمونه أحيانًا من مساعدات، قانعين بأنّ الله هو الحامي وهو الرازق وهو الحسيب والوكيل، إلى أن كانت تلك الليلة !… استفاق الجميع على صافرة بوق إسرافيل، هذا ما قالوه، وخرجوا من الأجداث إلى ربهم ينسلون، كانت السماء مشرقة في ظلمة الليل الكئيب، لكن ليس بنور ربها، وإنّما بنيرااااان صديقة، أعلنت أنها السّاعة، وكأن قدَم عاصفة أحبّت اللّعبَ بكرة الجحيم فأخذتها هذه الكرة بعيدًا عن جسد عاصفة بعد أن وسمت جسدها بالكثير من الشّظايا ….أسلمت عاصفةُ الأمانةَ بصرخةٍ لم تصرخْها يومَ وُلدَت ! .
أيها الأفاضل : أنا فلان بن علّان مع من بقي من أسرتي، أنعي إليكم استشهاد أختيّ بسمة وهادية اللّتين وافتهما المنيّة بالتتابع، ونحتسبهما بإذن الله مع الشهداء والصدّيقين وحسن أولئك رفيقا …
القاتل : نيران صديقة …
وما أدراك ما صديقة؟!
جميل بتوفيق أن شاء الله