كتبت انجي همام
كنت محشورة في سيارتي الفولكس الفستقي، الطريق متوقف تماما في 26 يوليو وأنا أتلهى بمطالعة واجهة مكتبة “ديوان”، هل أترك السيارة وأنزل لالتقاط بعض الكتب، ربما في هذه الفكرة بعض العزاء، لازال لدي بقايا من عقل لأفكر في الأخرين، ما ذنب صف العربات خلفي، لو دخلت المكتبة لن أخرج قبل ساعات، هكذا أعرف نفسي، وأعرف أنه لا يمكن ترويضها في هذا الخصوص، بقيت بضع خطوات حتى أصل لمدخل “البرازيل”، بضع خطوات أحتمل بسببها كل هذا العذاب، وخزة عميقة تحت إبطي الأيمن، لا أحتمل أقل ألم مع هذه الحرارة الشديدة، وكأنني داخل برميل حراري محكم الغلق، وأخيرا فتحت الاشارة، أنعطفُ يمينا وأنا اتنفس الصعداء، وددتُ لو ترجلت لجلب بعض المثلجات، للاسف لم يكن الوقت في صالحي، إن فاتني دوري ربما يضيع اليوم، وعلى أفضل الأحوال سأنتظر بضع ساعات أخرى، لم يكن الاحتمال الثاني بالسيء تماما بالنسبة لي، فأنا أحب الجو هناك، أحب فكرة تواجدي بالزمالك على كل حال، أشعر بكوني عدت من غربة إلى وطن، أو فررت من وطن مؤذي لوطن جديد أكثر سلاما، تلك الطمأنينة التي تحتويني في الزمالك هي سبب كل هذا العناء، سبب سفري الأسبوعي من مدينة نصر الممتلئة بالأطباء إلى الزمالك الممتلئة بالسكينة، ربما ليس “فاضل صخر” هو من يعالجني، بل الزمالك نفسها، قطعت المسافة المسماة “بالبرازيل” من نفس الشارع الذي يُصبح بعد ذلك “محمد مظهر”، هذه الأشجار على جانبي الطريق، المباني القديمة وصوت العصافير الضائع في ضجة النهار، تأخذني الزمالك لزمن مختلف، ترحم الروح من صحراء مدينة نصر القاحلة رغم ازدحامها الشديد، ومرورها المتصلب ككل مكان في القاهرة، تلك الهدئة المسالمة تمنحني فرصة مثالية لتأمل أحتاجه كثيرا، عيني تلامس الأحجار الكبيرة للبيوت العتيقة، التي تحول معظمها إلى سفارات، تُربًت عليها، أنبش خلف الحجر عن حكايات قديمة تواسي الروح لسبب غامض أجهله، الآن اختفت وخذة الإبط تماما، غاصت في لجة السكينة، خلفتها ورائي، ككل شيء أريد تركه قبل وصولي إلى هنا، مفارقة عجيبة أن أشعر بذلك، فما أتيت إلى هنا إلا للحديث عما يؤلم، فكيف أترك كل ذلك خلفي بمجرد اقترابي من العيادة، لم يذهب دوري من حسن الحظ، على باب غرفة “فاضل” أعدل ثيابي وأسحب رشفة عميقة من الهواء، كمن هي مقبلة للصعود على خشبة مسرح، يطلب مني “فاضل” كعادته أن أجلس كيفما يُريحني، وكعادتي أتربع على الأرض مسندة ظهري للحائط العريض الذي تعتليه صورة كبيرة لتشارلي شابلن، ربما أشعر بالتوحد مع ذلك العملاق خفيف الظل، الذي لا أعرف ما الذي أتى به إلى هنا، أريد التخفف من حزني قبل أن أبدأ بالحكي، يضحك “فاضل” دوما عندما أعتذر طويلا، عن إزعاجي له بحكاياتي السخيفة،
أحدثه عن مواصلتي للانشطار لمساعدتي على العيش، عن شقيقتي أو صديقتي أو ربما أمي التي اخترعتها لتتفهمني، وحدها تعلم كل شيء، ترى ما لايراه الأخرين الذين طالما اتهموني بالمبالغة دون أن يعرفوا حقيقة الأمور، هناك دوما من يحكم عليك بالغباء أو الجهل أو التطرف الشعوري، يحكم عليك في مشاعرك أنت فيما يخصك ويثق تمام الثقة أنه هو على حق وأنك غر عنيد!!، -أنا الأخرى- التي على هيئة صديقة أو شقيقة أو أم، تعرف كل شيء، ترى تفاصيل الحكايات دونما جهد حكيها، عندما تجدني ثائرة غاضبة منهارة من فرط سوء الحظ، من فرط الفشل التعب الملل، تقترب باسمة تحتضني بقوة وتهمس لا عليكِ، كل ما كنت أحتاجه هو هذه ” اللا عليكِ” هذه البسمة الحانية، تسخر من كل ما حدث وتردد وأنا من خلفها فداؤك، لا شيء يستحق،
أما هو حبيبي الذي خرج مني كصديقتي سالفة الذكر، لا يتحدث أبدا، هو دائما يربت على روحي على قلبي، ينظر في عيني طويلا ويتبع نظرته بتربيته على كتفي، يعرف كم هو العالم قاس بليد، يمسك يدي طويلا في زحام المرور الخانق، في طوابير المصالح الرسمية، في فراشي البارد ليلا، يمنحني كل ما أحتاج من محبة، ترف العشق الذي لم يعد له وجود، على الأغلب هو لم يكن له وجود، تخبرني بذلك مشاهد عبد الوهاب في الفيلم الثلاثيني، وهو يقول لحبيبته أن الحب لم يعد موجود كما كان،
يقول لها : الضجيج والزحام والمدنية الحديثة أفسدت كل شيء!
ماذا لو رأى عالمنا؟
على الأغلب ذلك الحب اختراع وهمي، كل جيل يتحدث أنه كان موجود من قبله واختفى، لا يهم، المجانيين يخترعونه دوما ويصرون أنه موجود بهم،
مرت جلسة اليوم بحكيي الطويل عن انشطاراتي المتوالية، وتكاثري الذاتي لذوات تشبهني، لا، بل يمكنني التعايش معها، لا يهم الشبه، المحبة كافية، أخترع من نفسي عالم بأكمله، عالم لا يحتاج إلى ذلك العالم في شيء، حلم طويل أخترعه كل يوم، غير أني أصحو مرغمة دوما، يخبرني “فاضل” باسما عن قوتي في مساندة نفسي، عن رغبتي الحقيقية في الحياة، عن ذكاء تلك الحيل لمواصلة الوجود، بعد مرور ساعتين تقريبا، أقف معتدلة، ألقي السلام على فاضل ومن بعده على تشارلي في طريقي للخروج، أنفض ملابسي من بعض أتربة ربما تكون علقت بها من جلسة الأرض، أرى كم هي نظيفة، لكنها الوساوس المعتادة، في مصعد البناية الخشبي القديم أسند رأسي للخلف وأسحب نفسا طويلا من سيجارتي التي أشعلتها للتو، لا أتجه صوب السيارة، بل أوغل في شارعي الحبيب، محمد مظهر حتى نهايته، حيث أصل للنيل، طاولة صغيرة عليها شمعة زجاجية تعمل بالكهرباء، شاعرية مصطنعة، ولكنها شاعرية ما، أجلس بالكازينو الذي أحبه، وألقي بما تبقى من شجن على تلك الموجات المتراقصة بهدوء شديد، المكان مزدحم كعادته في الليالي الصيفية، وقلبي خال من كل شيء إلاه، اعتدت أن أجده دوما جانبي، بل داخلي، فجواره ما عاد يكفيني مهما كان لصيقا، اعتدت أن أجده ما إن أختلي بنفسي، أحيانا أُخر أجده في الزحام، إنه لا يتركني وحيدة في الزحام، هو يعلم جيدا كم أكره أي زحام، كم أضيع وأضل طريقي، في هدأة روحي أجد الوصول أسهل، لا التفت، لا التفت مطلقا، الالتفات يضيًع من صاحبه الكثير، قد يضيًع صاحبه نفسه، لا نحتاج للكلمات، ثرثرة الدنيا لا تعنينا في شيء، يكفي للمحبين مشاعرهم، شعور موغل في النفس بأن هناك من يسكنها، من يؤنسها، العشاق لا يعرفون الوحدة، ولا يعرفون اليقظة أيضا، سرقني الوقت، لابد من التحرك حالا، الجو أصبح ألطف بحلول المساء، والزمالك أجمل ليلا، أترجل حتى السيارة بسلام داخلي كبير، فستقتي الصغيرة صارت بردا وسلاما، أفتح نوافذها وأنطلق، ثلاثة أرباع الساعة كانت معجزة لبلوغ الأتوستوراد، عادت الحياة للتوقف مع بلوغي عباس العقاد، لن ينال مني الزحام مجددا، كنت أغني بصوت عال وإنسجام مع فريد الأطرش في إحدى نوبات بهجته القليلة، “حبني أد ما تقدر يا حبيب القلب .. حبي لك أكتر وأكتر من كل الحب “… حينما لمحتها، كانت تستجدي سيارات التاكسي لتقلها، تهرول بين صفوف العربات الواقفة تحمل رضيعا على كتفها وتجر طفلا بيدها الأخرى، يبدو أنها في ظرف غير عادي، تقترب من نافذة كل تاكسي وتخبره وجهتها فيشيح السائق بوجه، وكأنما سبته بأمه، يتحرك بضعة سنتيمترات للأمام ويخلفها ورائه، رحت أدعي لها بالتيسير، لكن السماء لم تستجب، كنت أنا الأخرى أتحرك سنتيمترات قليلة كل بضع دقائق، الخوف الذي أورثتنا إياه الحياة كان يطوقني، وكذلك المنطق، تجاهلتهما للحظة ثم أشرت إليها بالمجيء، في وجهها رأيت قرين خوفي فاطمئننت قليلا، سألتها عن وجهتها فأجابت الزمالك، طلبت مني إخراجها لأقرب نقطة بعيدا عن الزحام ومن ثم يمكنها التصرف، سمعتها أذناي لكن عقلي كان يعرف أنني لن أفعل، كان من واجبي إدهاش أحدهم في هذه الليلة، المعروف أصبح إدهاشا في عالمنا، كان عليً تأديته على أية حال.