متابعة : حمادة الشرقاوي
ميتا الصحفية : نبيل ابو الياسمين يكتب
لقد كتبت في هذا الموضوع قبل خمس سنوات، ولكن جاءتني بعض الأفكار، وراودت قلمي لأضيف على ما كتبت إضافات قد تفيدكم، وتخرج ما في صدري من المزيد منها، وفي البداية أقول: « إني أصررت على الصمت سنين طويلة، فصعنت لي هيبتاً جليلة، وإحتار المثرثر لصمتي فبعد ما أعتاد على ذكري في كل مجلساً كـ”اللعينا” بات ينسىّ ذكري في المجالس من كثرة الإنشغال بالعويلا»!
الثَرثَرة المُفرِطة هو مُصطلح في علم النفس، وهو إضطراب تواصل يُؤدي إلى إفراطٍ في النُطق مع تكرارٍ للكلام، والذي قد يُؤدي لعدم ترابط الكلام، ويُصنف هذا الإضطراب أحياناً على أنه إضطرابٌ نفسي، وذلك على الرغم من أنه يُصنف غالباً كعرضٍ لمرضٍ نفسي أو إصابةٍ في الدماغ، فإن الثَّرْثرةُ تعُد مِن آفَات اللسان التي يقع فيها كثير من الناس، وقَلَّ مَنْ يسلم منها، ومع ذلك فهي من أخطر آفات اللسان على صـاحبها، فالثرثار كان من أبغض الناس لقلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك كان من أبعد الناس عن مجلسهُ، و”الثَّرْثَرَةُ” تعًد سبب مِنْ أسباب دخول النار، وسبب قسوة القلب، وسقوط صاحبها من أعين الناس وقلة هيبته، ودليل قلة العقل.
فروي عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّه ِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَىَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَىَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ”، قَالُوا يَارَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ قَالَ: “الْمُتَكَبِّرُونَ”.
فأن الصمت قوه حقيقية ، ومُثرثر الحديث في المجالس قوة ولكن ورقية وهزلية، من يُثرثر عليك من خلفك لاتنظرإلية لانه خلفك، وليس أمامك، والقوي دائماً ما يكون في الأمام متقدم صفوف ضعاف النفوس، فدائماً ننظر أمامنا، ولا ننظر خلفنا، إلا على صوت كلبٌ شارد، أو يدي غادراً خائن، أو منادي سأل، أو ريحاً جارف.
أن تكون قويا هذا شأنك، ولكن هل تتفهم معنى القوة الحقيقية، والتعامل بها مع الآخرين دون المرور على تلك المضامين الإنسانية، واللا أخلاقية، فالقوه قوة الأخلاق، والخلُق تبدو حين تختلف مع الآخر، وهناك من يستخدم مفهوم أخلاق القوة للضرب تحت الحزام كما يقولون، وإستخدام نقاط الضعف، وإفشاء أسرار من آئتمنك عليها، والفجور في الخصومة، فيطيح بكل القيم الأخلاقية لأدنى إختلاف، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من آية المنافق أنه ” إذا خاصم فجر “، لكن قوة الأخلاق في العفو، والعفة عن نقاط الضعف، وقول الحق حتى على النفس { يَا اَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى اَنْفُسِكُمْ } .
هل يتفهم القوي أن القوة ليست فقط فى القول المثرثر، والفعل المتخابث؟ لأن من يقول ويُثرثر قد يرتكب الأخطاء وهو يتحدث، ومن يفعل بالقوة قد يرتكب الحماقات، وتختلط عليه الأمور التي تؤدي للشبهات، ولذلك قد تجد القوي من الناس يعرف مقدماً كيف يتصرف من يدعى القوة من صوته، لأنه قد يتدفق بترسانة من المفردات التى لا تحمل معنى ويتحول إلى شخص مقروء مسبقاً، قد يأتيه من هو أقوى منه ويتجاوزه، لأن هذه القوة تتحول إلى إندفاع لا يرى من خلاله الصورة جيداً، ولا يقرؤها، وتظل المساحة لمن يتعامل معه أرحب وأكثر أحتمالاً لإتخاذ القرار المناسب، والتصرف السليم.
وهنا أقول: في الهدوء نعيم وفي الصمت حياة، وما بين الإثنين تفاصيل لا أحد يدركها،
فإذا أردت عبور مشكلة لا تستخدم فمك إلا في شيئين الإبتسامة و الصمت، فقد تعلمت الصمت من الثرثار، و التواضع من المتكبر، ولكني أُنكر فضل الأثنين، وتعلمت أيضاً تميزي بين صمت الكبار و الصمت الكبير، فصمت الكبار يقاس بوقعه، و الصمت الكبير بمدته، فبكثرة الصمت تمكن الهيبة، وأرىّ أن المصيبة ليس في ظلم المثرثرين الأشرار بل في قوة صمت الاخيار.
«إِن القليل من الكلامِ بأهلهِ•• حَسَنٌ وإِن كثيرَهُ ممقوتُ
ما زلَّ ذو صمتٍ وما من مكثرٍ •• إِلا يزلُّ وما يُعابُ صَموتُ
إِن كان ينطقُ ناطقاً من فضةٍ •• فالصمت درٌ زانَه الياقوتُ
لا تبدأنَّ بمَنْطِقٍ في مجلسٍ •• قبل السؤالِ فإِن ذلكَ يشنعُ
فالصمتُ يحسن كل ظنٍ بالفتى •• ولعله خرقٌ سفيه أرقعُ
ودعِ المزاحَ فربَّ لفظةِ مازحٍ •• جلبَتْ إِليكَ مساوئاً لا تدفعُ
وحفاظُ جارِكَ لا تضعْه فإِنه •• لا يبلغُ الشرفَ الجسيمَ مضيعُ
وإِذا استقالك ذوِ الإِساءة عثرةً •• فألقه إِن ثوابَ ذلك أوسعُ
فلا تكثرنَّ القولَ في غيرِ وقتِه •• وأدمنْ إلى الصمتِ المزينِ للعقلِ يموتُ الفتى من عَثْرةٍ بلسانِه •• وليس يموتُ المرءُ من عثرةِ الرجلِ».
وألفت: في مقالي إلى قصة واقعية، فقد إلتقيت بشخص كنت أعرفهُ بعد غياب لسنوات كان الزمن قد أخذ منهُ الكثير، وكانت الأيام قد إستنزفت دواخلهُ، وأخذت منهُ ما إستطاعت أن تأخذه، عرفتهُ لسنوات قوي، صارخ محتج ، دائماً معترض، مناكف، معتدي، متنمر، وفى بداية حياتنا عندما كنا صغاراً كان البعض يحسب لصوتهُ العالى آلف حساب بدون سبب، وللهالة الهجومية غير المبررة التى تتدفق منهُ على الآخرين، خسر الكثير، وتجنبه الكثير ممن حولهُ، وكان عندما يهدأ، يقول أنا سأظل هكذا لا يمكن أن أتغير أو أتبدل، كل ما أقوم به إنعكاس لشخصيتى القوية، لاني تربيت أن أكون قوي، وصلب، لا يدوس لى أحدهم على طرف أوحسبما قال.
فأتجنبته لأني بطبيعتى الهادئة لا أحب أن أتعايش مع مثل هذه الشخصيات المبشرة بالعواصف، وثقافة الفراغ المتقلبه، فوجت أن القوه أن تكون صامت بتململ من أجل أن تنتقل من حديث إلى آخر، حديث متوازناً يحمل في جوهره الفطنة والحنكه، لتكون غريباً فى شخصيتك للآخر، مميزاً وليس متثرثر الحديث في المجالس، وأن تعتمد على الإستماع أكثر من الكلام، ليكونَ نظام تتخذ منه منهج حياه لك، وأن يكون هدوئك وتبسمك، سمة تستمد منها قوتك لتبرز المعنى الحقيقي لـ «الصمت قوه»، القوة ليست فيما نقول ونفعل أحياناً فقد تكون فيما نصمت عنه، وفيما نتركه بأرادة الله أو بإرادتنا، وفيما نتجاهله.
وأُؤكد: في مقالي هذا أن القوة الحقيقية هى فى الصمت، لأنه الإختيار الأسهل لك، والأصعب للآخر، لأن الصمت عما نتركه بإختيارُنا، ونتجاهلهُ بإرادتنا لأنهُ شأن بات لايخُصنا، وأن نسرع دون تباطئ بفتح جميع النوافذ ليخرج بلا رجعه ويرسي المعنى المقصود أن الصمت الوجه الآخر للقوه الحقيقيه،
وأن نعي جيداً بأن القوة ليس هي التي تُصدّر للآخرين بالصوت العالي، والهالة الهجومية التى تتدفق منك على الآخرين فهذه قوه ورقيه وهزلية فضلاً عن إنها ضعيفة المد، والمدى
تُنبذك من الآخرين ولا يسعى لتغييرها الآخر أو تجاوز الأفق المسدود، ويتغير الزمن ويتغير الكثير، وتأخذ الحياة الجميع بين طُرقاتها، وتشكل منّ حتى المنطلقين دون قياده إلى قوه حقيقية «الصمت » أو قوه ورقية هزلية «الثرثره ».
مؤكداً: أن الصمت قوة لا يستهان بها، وللصمت لغة لا يفهمها غير العقلاء، ومن السهل على الإنسان تعلم الكلام، ولكن من الصعب أن يتعلم كيف يصمت، وأن ليس الصمت عجزاً ولا ضعفاً، ولكنّه قوة عقل، فقد يُشكل الصمت مصدراً للحكمة والقوة، وسيلة لمعرفة الحقيقة، والحكمة سر ما أن يلامسه الفكر حتى يتوارى، فضلاًعن ؛ أن الصمت فن عظيم من فنون الكلام، وقد يصبح ألماس عندما لا تجد فائدة لحديث قلوب صماء وأنانية.
وختاماً أقول: الأصل أن يكون الكلام بمقدار الحاجة، وبما لا يضر بالآخرين أو بسمعتهم، وأن لا يكون فيه إساءة أو تجريح، وأن لا يتحدث الإنسان إلا بما ينفع، وأن لايفرط في المزاح، لأن كثرة المزاح تقلل من الهيبة، وقد تؤدي إلى مشكلات بين الناس، وكثرة الكلام كثيراً ما تكشف العيوب، وتزيد من إمكانية الوقوع في الخطأ، فكلما كثر الكلام زاد الخطأ، وأن بعض الناس تعودوا على الثرثرة وكثرة الكلام، لأنهم يجدون فيها لذة، وخصوصاً عند الطعن في أراء الآخرين، أو النيل من سمعتهم وكرامتهم، وهذا يعُد مرض وفراغ، وكبر، وغرور، لأن الشخص يظن أنه أفضل من الأشخاص الذي يتحدث عنهم، والأصل أن يراقب الإنسان الكلمة ويزنها قبل إلقاءها.