كتب نعيم الاسيوطي
اشترى قلم رصاص، وراح يخلط الطين بالماء، يرسم خطوطا متساوية في اتجاهاتٍ شتى.. حين أشرقت الشمس، تعانقت كل الخطوط، شكلت إناءً فارغاً.. ألقى بداخلها بعض ذكرياتٍ آلمته، وبكى بصوتٍ مرتفع.. حينها.. خرجت من الإناء بعض الكلمات مبعثرة.. صفعته على وجهه، أشاح معترضا بشده.. نظر إلي أصابع يده، فوجدها مبتورة..
يمسك بطرف جلبابه الملطخ بالطين، وينطق بالشهادتين.. يهتز الإناء؛ لتخرج منه بعض ذكرياتٍ تنزف دماً.. ترتفع درجة حرارة الغرفة للغليان..
تحول لون الإناء لألوان كثيرة متموجة، وزادت سرعة المروحة فوق رأسه.. يسمع نبضات قلبه.. فترتعش يده المبتورة؛ ثم تسقط على الأرض..
تلتف بعض الذكريات حول عنقه.. تنهمر الدموع من عينيه شيئا فشيئاً.. تختلط دموع الفرح بموجات الحزن.. لتشكل أسلحه حارقه للقلب..
تعود الذكريات مسرعة إلي الإناء.. ذكرى تتبع أخرى، حتى النهاية.. يتنفس هو بعمق، ويمتطى لحظاتٍ من سكون.. ينفتح الشباك بعنف من شدة الهواء.. يتحرك الإناء داخل الغرفة مذعورا.. يرتفع عاليا، ويطير في اتجاهات عدة.. يصطدم برأسه، ثم يمزق ملابسه، يهلهلها..
يتسلل ضوء الشمس إلي الغرفة.. ينظر إلي ظله المرهق.. الإناء يتدحرج على الظل.. تصدر منه أصوات غير مفهومة.. يجلس على الأرض.. يمسك حذاءه المتهالك بيده.. يرسم خطوطا متعرجة ومتباعدة..
يجلس على الخط الأول، وينتحب.. يختلط بكاؤه مع مواء قط ضال.. يضع يده المبتورة على رأسه.. فقد اختفت منها حاسة اللمس، فظهرت على وجهه علامات التعجب..
ينتقل إلي الخط الثاني.. فجأة تنهال ضربات الأحذية على رأسه.. يسقط على الأرض فاقدا الوعي.. الخط التالي بهت كثيرا.. يستفيق من غفلته رويدا.. رويدا..
يقترب الإناء من جسده العاري.. يشكِّل له أصابع من طين.. يتغير لونها من حرارة الشمس.. يختلط الطين بشعر رأسه الأبيض.. الإناء ينفجر في الضحك..
تقفز قطة مذعورة من الشباك، وتقترب منه في بطء.. يختفي الإناء بأحد أركان الغرفة المظلمة.. تنظر القطة إلي جسده العاري.. تخرج لسانها في لهفة.. تقضم يده الأخرى، فتنهمر منها الدماء غزيرة.. تهرب القطه.. يقترب الإناء سريعا.. يشرب من دمه حتى يرتوي.. ينتفخ بطنه كثيرا.. ينفجر كالبركان..
يستيقظ القلم بعد صمت طويل.. يضربه على رأسه.. ترحل الشمس في هدوء.. ينطق القلم: سني مكسور وجسدي بلا خشب.