كتب أحمد البدري
طرقات متعرجة ..كلاب تنبح .. نسوة متشحات بالسواد ..شمس تميل إلى الغروب روائح خانقة..جو ساده اللون الأصفر الشاحب ..همسات وتنهيدات ..بعض من النحيب .كلها جميعا رسمت لوحة قاتمة يفوح منها الحزن والكآبة.
استلت جلبابا أسودا قديما ظل مهجورا أعواما ليست بالقليلة. بحثت كثيرا في أغراضها علها تجد ما يناسب هذا الموقف . رسمت بعضا من ملامح الحزن علي وجهها .. اخترقت الحارات الواحدة تلو الأخرى ..وصلت إلي شارع جانبي تخطت السور الفاصل بين عالمين. جلست أمام القبر تتلو آيات من القرآن تملكها الخشوع .جالت بنظرها هنا وهناك . العيون تصطدم بأسماء نامت فوق الشواهد .تباينت الأسماء فمنها المشهور، ومنها المغمور .كما اختلفت ألوانها وأشكالها وخاماتها فمنها المصنوع من الطين ومنها المصنوع من الطوب اللبن وبعضها من الرخام والجرانيت .
انشغلت بتجفيف الدموع المنسكبة بغزارة ومرارة،أتت على ما تبقى من نضارة عابرة .وجنتاها تشي عن جمال قديم سكنها .
تلك العيون السوداء المتلألأة تحمل داخلها الكثير من الحرمان والشوق والحزن الباهت.
أقبل الليل فأرخى بستائره على المكان .كان يقف هناك .بعيدا يلاحظ حركاتها وسكناتها .انتظر حتى يتسربن الأخريات من القبور ورائحة الموت .لم يتبق منهن إلا القليل. أغلبهن حديثات العهد بزيارة المقابر .. تناثرن حول الشواهد. كن مشغولات في ثرثرتهن وذكرياتهن . لم ييأس وظل ينظر ……بقيت وحيدة تحدق في الشاهد الرخامي .فجأة ظهر أمامها .دقق النظر ..حدقت في ملامحه ..لمعت عيونها ..سرق بين شفتيها بسمة خجلي .مد كفه ..نامت راحتيها بين كفيه الغليظتين . مقدما إليها واجب العزاء بعد أن عرفها بنفسه .لم ينس أن يعرض خدماته عليها .
اهتزت خلجاتها لغزو نظراته الثاقبة ،وعدها بلقاء آخر تركها ورحل صار ثوبها الفضفاض لا يقوى على ستر ما بداخلها .أعادت الكرة . نظرت إلي الشاهد ،تطلب منه السماح ،وتوسلت أن تعيش حياتها مرة أخرى .
تفصد الشاهد منبىء عن مولد قط أسود أرقط . نفض عن جسده ذرات التراب العالقة به . خرج منه مواء غريب . كان خليطا من صوت آدمي وصرخات القطط .كان الصوت وكأنه قادما من أعماق زمن سحيق . وجه نظراته . . كشفت كل ما حولها ..كانت تلك الموجات المشعة الخارجة من عينيه تصيبها بالرعشة .تملكت جسدها رجفة قوية .أحست وكأن الأرض تقتلع من أسفلها ،وأن السماء تتساقط فوق رأسها .
انقطعت أنفاسها عن الخروج . قفز القط بين المقابر واحدا تلو الآخر .. حاولت العودة إلى صوابها أكثر من مرة حتى اهتدت بصعوبة بالغة إلى مخرج . تلمست شريط صغير بالكاد يسمح لقدميها بالمرور .. وضعت نفسها عليه . أقدامها تتخبط بين القبور . تمر على هذا الشريط الرفيع جدا المتعرج حتى وصلت بوابة الخروج .
تركت عالم القبور . أخذت تجرى بين الحواري . ظلت في فراشها لأيام جثة هامدة لا تنطق حرفا أو ترفع جفنا . توالت الأسئلة على أذنيها لكن أنقطع الرد تماما . طوفان الأسئلة يتناول أحداث المقابر و غيرها …. قالت النسوة ربما تلبسها جن ..فشل هذا التفكير بعد قدوم الدجالين والمشعوذين . أتفق الأطباء على خلوها من أي مرض عضوي .
كانت تسبح في عالم مجهول لم تعرفه من قبل .. أحست بالدفء في عالمها الجديد . تركت لنفسها العنان .. توحدت في أحلامها . لكن صدى صوت الرجل مفتول العضلات يقتحمها عدة مرات . تمنت أن يكون معها يشاركها وحدتها ويقطع تطفل الآخرين . تمنت أن تلقى بجسدها بين ذراعيه أو يكرر كلمات الشوق والغزل …تمنت لو يغسلها من حزنها ..أو يطفيء تلك النار التي تسربت إلى جسدها و روحها . ظلت تناجيه .. مازال الأخريات ينظرن إلي جثة هامدة .
أسدل النعاس ستائره فوق العيون . تسلل القط بين المقابر . تعرف على أصحابها واحدا واحد ، وكأنه يودعهم .اعتلى السور الفاصل بين عالم الموتى ودنيا الأحياء . صدى خطواته على الطريق الأسفلتى يهز جدران البيوت المتهالكة حوله . تلمس طريقه إلي البيت مقصده . كان الظلام متسيد المكان . أخذ يقفز فوق أسطح البيوت المتواضعة . يتنقل من سطح إلي آخر ..يشاهد ويراقب ..يجرى هنا وهناك .توقف أمام غرفة متواضعة ينبعث منها ضوء خافت . في أرجائها أطفال نائمين متناثرين بلا فرش أو غطاء . . جثث بطونها خاوية وأنفاس لاهثة محملة بالعفن . خطف بصره ضوء أحمر فاقع محمل بروائح و بر فانات خانقة ممتزج برائحة عرق لزج ، وأجساد متكورة فوق بعضها .اهتدي بصره إلي جسدين متلاصقين . تعرف على الجسد الأنثوي . هذا الجسد يعلمه جيدا .. كم تذوقه وأكتوي بناره .. هذا العطر مازال يسكن في أنفه . تبسم في حسرة وألم . أخذته الرعشة . مرر شاربه على وجهه . همهم .. سقطت منه دمعتان . هبط وقد ضاق به الكون . ظل يراوغ نفسه . عندما وجد المرأة التي كانت بالأمس تبكيه . مسترخية بين ذراعي رجل آخر . تخطى الأسطح . هبط إلي سوق اللحم . توقف أمام صف من البشر . ابتلع ريقه .. جرى لعابه أمام اللحمة المعلقة . أشتهى ولو قطعة صغيرة منها . تسلل حتى وصل إليها . هبطت ضربة على رأسه . فقد توازنه للحظات . أغلق صديقه الجزار محله . تسلل خلسة إلى داخل المحل عله يجد بقايا من اللحم . قضى ليلته بين جدران المحل . نظر حوله كانت صورة صديقه معلقه على الجدار . اعتلاها . بال عليها … تشققت الجدران.. استكان في أحد الشقوق . عاد إلى عالمه
سكن الشاهد مرة أخرى …لم تعد لزيارته من يومها .